الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ونظيره من كلام العرب قول سعد بن ناشب المازني: أي طالبه.{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنة الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا، قالوا له: {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر وغيره من المعاصي {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} أي ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر. وهذا الذي ذكره عنهم هنا أشار له في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في الشعراء عنهم: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين} [الشعراء: 50-51]، وقوله عنهم في الأعراف: {رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]. وفي آية طه هذه سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} يدل على أنه أكرههم عليه، مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} [طه: 62-64]. فقولهم: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفًّا} صريح في أنهم غير مكرهين. وكذلك قوله عنهم في الشعراء: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 41-42]، وقوله في الأعراف: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 113-114] فتلك الآيات تدل على أنهم غير مكرهين.وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة:منها: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر، وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض، ويدل لهذا قوله: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36]، وقوله: {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111].ومنها: أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر. ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين.ومنها: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا: ففعل فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر! لأن الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى إلا أن يعارض، وألزمهم بذلك. فلما لم يجدوا بدًا من ذلك فعلوه طائعين. وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تعالى.وقوله: في هذه الآية الكريمة {خَطَايَانَا} جمع خطيئة، وهي الذنب العظيم. كالكفر ونحوه. والفعلية تجمع على فعائل، والهمزة في فعائل مبدلة من الياء في فعيلة، ومثلها الألف والواو، كما أشار له في الخلاصة بقوله: فأصل خطايا خطائي بياء مكسورة، وهي ياء خطيئة، وهمزة بعدها هي لام الكلمة. ثم أبدلت الياء همزة على حد الإبدال في صحائف! فصارت خطائئي بهمزتين، ثم أبدلت الثانية ياء للزوم إبدال الهمزة المتطرفة بعد الهمزة المكسورة ياء، فصارت خطائي، ثم فتحت الهمزة الأولى تخفيفًا فصار خطاءي، ثم أبدلت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار خطاءًا بألفين بينهما همزة، والهمزة تشبه الألف، فاجتمع شبه ثلاثة ألفات، فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال، وإلى ما ذكرنا أشار في الخلاصة بقوله: واوا... إلخ.وقوله في هذه الآية الكريمة: {والله خَيْرٌ وأبقى} ظاهره المتبارد منه: أن المعنى خير من فرعون وأبقى منه. لأنه باق لا يزول ملكه، ولا يذل ولا يموت، ولا يعزل. كما أوضحنا هذا المعنى في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} [النحل: 52] الآية. أي بخلاف فرعون وغيره من ملوك الدنيا فإنه لا يبقى، بل يموت أو يعزل، أو يذل بعد العز. وأكثر المفسرين على أن المعنى: أن ثوابه خير مما وعدهم فرعون في قوله: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 41-42]. وأبقى: أي أدوم. لأن ما وعدهم به فرعون زائل، وثواب الله باق. كما قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17]. وقال بعض العلماء: {وأبقى} أي أبقى عذابًا من عذابك، وأدم منه. وعليه فهو رد لقول فرعون {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} [طه: 71] ومعنى {أبقى} أكثر بقاء.{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)}.ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ} أي الأمر والشأن {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ} يوم القيامة في حال كونه {مُجْرِمًا} أي مرتكبًا الجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذًا بالله تعالى {فَإِنَّ لَهُ} عند الله {جَهَنَّمَ} يعذب فيها ف {لاَ يَمُوتُ} فيستريح {وَلاَ يحيى} حياة فيها راحة.وهذا الذي ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع: كقوله: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]، وقوله تعالى: {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15-17]، وقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56]، وقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذى يَصْلَى النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الأعلى: 11-13]، وقوله تعالى: {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] إلى غير ذلك من الآيات. ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن {وَمَن يَأْتِهِ} يوم القيامة في حال كونه {مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات} أي في الدنيا حتى مات على ذلك {فأولئك لَهُمُ} عند الله. والعلى: جمع عليا وهي تأنيث الأعلى. وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الأحقاف: 19] ونحو ذلك من الآيات. اهـ.
|